بين العولمة وصناعة التفاهة
كتبت:نيفين ثروت
التفاهة، كمفهوم فلسفي واجتماعي، تشير إلى الانحدار في المعايير والقيم والمعارف إلى ما هو سطحي وعديم الأهمية. إنها تنعكس في انتشار المحتوى التافه في وسائل الإعلام والمجتمع، حيث يتم التركيز على الأمور البسيطة التي لا تضيف قيمة حقيقية أو فكرية. هذا المفهوم يتمثل في الميل إلى الإهمال في العمق الفكري والاهتمام فقط بالمظاهر أو بالمواضيع التي لا تحمل معنى كبيرًا أو تسهم في تطوير المعرفة والوعي.
أصل مفهوم التفاهة:
أصل المفهوم قديم في الفلسفة، لكن يُعتقد أن النقد الحديث للتفاهة بدأ مع تحولات المجتمع نحو الحداثة وما بعدها. الفلاسفة والمفكرون كانوا دائمًا يسعون نحو تحليل طبيعة الفكر والوجود، إلا أن بعض المفكرين بدأوا ينتبهون إلى ظاهرة أخرى وهي انحدار الاهتمام بالمعاني الجوهرية والحقائق العميقة.
أسباب انتشار التفاهة:
1. تطور وسائل الإعلام: وسائل الإعلام الجماهيري وانتشار التلفزيون والإنترنت ساهما في تسطيح المعرفة. فالمحتوى السطحي، السريع، والتسليلي أصبح أكثر جاذبية للجماهير من النقاشات الفكرية المعقدة.
2. ثقافة الاستهلاك: المجتمعات الحديثة أصبحت موجهة نحو الاستهلاك والسرعة، مما دفع إلى انتشار ثقافة “المحتوى الترفيهي” الذي لا يتطلب تفكيرًا عميقًا.
3. العولمة والتكنولوجيا: التكنولوجيا سهلت الوصول إلى المعلومات، لكنها أيضًا سهّلت انتشار المحتويات السطحية غير الهادفة، ما جعل الناس أقل انتقائية في ما يتابعونه.
4. الرغبة في الشهرة: وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في دفع الأشخاص للبحث عن الشهرة والاهتمام بأي وسيلة، وغالبًا عبر نشر محتويات تافهة لجذب الانتباه بسرعة.
أول المفكرين الذين تطرقوا إلى التفاهة:
غي ديبور (Guy Debord): في كتابه “مجتمع الفرجة” (La Société du spectacle) الذي صدر في عام 1967، تحدث عن كيفية سيطرة الصور والمظاهر على حياة الناس، وكيف أن الثقافة الاستهلاكية والإعلامية تحول كل شيء إلى عرض تافه.
هانا آرنت (Hannah Arendt): في كتابها “أصول التوتاليتارية” (The Origins of Totalitarianism)، تطرقت إلى مفهوم التفاهة حين ناقشت فكرة “تفاهة الشر” (The Banality of Evil)، مركزة على أن الأفعال الشريرة يمكن أن تصدر من أشخاص عاديين يفكرون بطريقة سطحية ويؤدون أعمالهم دون التفكير بعمق في عواقبها.
بيير بورديو (Pierre Bourdieu): في كتاباته حول التلفزيون ووسائل الإعلام، مثل كتاب “عن التلفزيون” (Sur la télévision)، تناول دور الإعلام في تسطيح الثقافة ونشر التفاهة، مشيرًا إلى أن الإعلام يدفع باتجاه تخفيض مستوى النقاش العام والاهتمام بما هو سطحي.
التحليل:
من خلال تحليل التفاهة، نرى أن هذه الظاهرة ليست فقط مشكلة فردية أو مرتبطة بشخصيات معينة، بل هي نتاج بيئة ثقافية واجتماعية. في العصر الحديث، الاستهلاك والتكنولوجيا قد عززا من التفاهة لأنهما جعلا المحتويات السريعة والمسلية الأكثر طلبًا ورواجًا. ومع ذلك، الفلاسفة والكتاب حاولوا دائمًا تحذير المجتمع من هذا الاتجاه، مشيرين إلى أن الاستسلام للتفاهة يقود إلى فقدان التفكير النقدي العميق وانخفاض مستوى الثقافة العامة.